من البديهى أن يكون لكل شىءٍ مُقدِّمات، وللنجاح من سلالم مُتدرِّجة، تبدأ من الأدنى للأعلى وليس العكس، وأظنه هذا الذى حدث فى مصرنا اليوم بعد تسع سنوات عُجاف من العمل الشاق مضت، تسابقنا فيها مع الزمن سباق الخيول فى ساحة التنافس، لنصل إلى ما وصلنا إليه الآن من استقرارٍ فى جميع المجالات بلا استثناءٍ، وهى أولويات كانت مدروسةً بعنايةٍ، كنا لا يصح أن نُؤخِّر فيها ما يجب تقديمه، أو تقديم الذى لا يجب تأخيره، فلا يُعقل أن نبنى بينما هناك إرهابٌ يهدم، أو ندعم ونُعطى دون وجود اقتصادٍ قوىٍّ يُدر ليُنفق، وهكذا ترتبت الأمور علميًا وبتخطيطٍ جيد مُحكم، حتى بلغنا مائدة الجلوس على مائدة الحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس، لنتفق سويًا على الخطوات التالية، التى تُمهِّد الطريق نحو مستقبل يمتاز بالاحترافيةٍ، غير مُنقسمين إلى مُؤيدٍ ومُعارض على هدفٍ واحدٍ، هو تنمية ورخاء دولتنا الجديدة التى وُلدت من رحم ثورتين، دفعنا فيهما من دمائنا وأعصابنا وطاقاتنا ما لا يُمكن أن نتازل عنه إلا بالمضى قُدمًا للأمام وعدم العودة للخلف مرةً أخرى.
مَنْ يُمعن النظر إلى الحنكة السياسية التى أُديرت بها الدولة فى أعوامها الفائتة، بعد تولى الرئيس السيسى السلطة، يتعجَّب من منهجية العمل التى سارت وتسير بها دولة خرجت للتو واللحظة من مُؤامرة ربيعٍ عربىٍّ مُزيَّف رحل غير مأسوفٍ عليه، ببرنامجٍ إصلاحىٍّ شامل، طبَّب الجراح الداملة، وقوَّم الأغصان المائلة، وواجه الصدمات الناشئة، وما أن كُتب له النجاح، ونال الإشادة المحلية والعالمية، فضَّل أن يبدأ حوارًا سياسيًا تاليًا لما تحقَّق من إنجازات على الأرض، يشمل إصلاح سياسيًا، وملفات أخرى حان الوقت لأن يطالها النقاش والتدارس، من جميع الأطراف ومختلف الأطياف، حتى تتسم مخرجات الحوار بالمنهج العلمى التطبيقى، ويتبنى المصريون تنفيذها يدًا بيدٍ مع الرئيس والحكومة، لنرسم مستقبلنا القابل بأيدينا، لأن مصر لم ولن يبنيها إلا المصريون.
غاية أدب القائد أن يطلب من رعيته صيغةً يرتضونها للحوار، فكان حُسن القول ذلك الذى جاء على لسان رأس الدولة وقائدها، فى حفل إفطار الأسرة المصرية، بشهر رمضان الماضى، بأن “الاختلاف فى الرأى لا يُفسد للوطن قضية”، وكأنه أراد أن يجعل المبدأ شعارًا للمرحلة، وهدفًا رئيسيًا لأى حوار وطنى يتم مُستقبلًا، ليُشكل بذلك الأمر تحالفًا وطنيًا، يطوى أى خلافٍ فى الرؤى بين الإدارة الحاكمة، والقوى السياسية بالشارع، على غرار تحالف 3 يوليو من العام 2013؛ الذى أنقذ البلاد من شر الجماعة الإرهابية التى استولت على الدولة عنوةً، وربما نحن بحاجةٍ فى تلك المرحلة لهذا التحالف، ليكون اصطفافًا حقيقيًا يحمى الوطن من زلزال الحرب الروسية الأوكرانية، الذى جاء بعد إجراءات استثنائية قاسية استمرت عامين، اضطرت الحكومة لاتخاذها بسبب جائحة كوفيد 19 القاتل.
أما اختيار الجهة المُنسِّقة، وهى ‘الأكاديمية الوطنية للتدريب”، فكان الأروع فى الأمر، إذ جاء بيانها مُتزنًا ويدل على عبقرية المؤسسة الوطنية التى تتمتع بتنظيم مثل تلك المبادرات، وليرسم خارطة طريق أولية للحوار والأطر الحاكمة له، وكان نصه: “فى إطار تكليف الرئيس السيسى، بالتنسيق مع جميع تيارات وفئات المجتمع لإدارة حوار وطنى حول أولويات العمل الوطنى خلال المرحلة الراهنة، فالأكاديمية مستمرة فى تلقى طلبات المشاركة من مختلف القوى فى المجتمع المصرى، وأنها سوف تقوم بإدارة هذا الحوار الوطنى بكل تجرُّدٍ وحياديةٍ تامة فى إطار دورها التنسيقى بين جميع التيارات المشاركة بالحوار بعيدًا عن التدخُّل فى مضمون ما يتم مناقشته فى جلسات الحوار؛ لإفساح المجال أمام حوار وطنى جادٍ وفعَّال وجامع لجميع القوى والفئات، وتعتمد الأكاديمية على توسيع قاعدة المشاركة فى الحوار من خلال دعوة ممثلى جميع فئات المجتمع المصرى؛ لضمان تمثيل الجميع فى الحوار، وذلك فى إطار تدشين مرحلة جديدة فى المسار السياسى للدولة المصرية نحو جمهورية جديدة تقبل الجميع.
ورؤيتى لإنجاح أى حوارٍ بين الفرقاء تتلخَّص فى عِدَّة ضوابط، إن تم اتباعها، يقينًا سنتفق، ويقينًا سنخرج بمعطيات تُكلَّل بوثيقة نجاحٍ تتجاوز ما نأمل، بل وسيكون الفائز الأول والأخير الوطن الذى نبتغى رفعته ورُقيه جميعًا، وهى لا تحتاج منا تكلُّفًا ولا التفكير طويلًا وإرهاق أنفسنا، ليس إلا إخلاص النوايا، والاستماع للآخر والإنصات له، ومنح الفرصة كاملةً لكل مُتحدِّثٍ أن يدلو بدلوه، وعدم الحجر على فصيل بحُجَّة ثقافته وكيانه وبيئته، وطرح العقائد جانبًا عند الحديث سويًا عن شأن الوطن، فكلنا مصريون، وجميعنا فى الحلو والمر سواء، وأن يكون لطلاب العلم مكانٌ به، فهم حاضر البلد ومُستقبله، ولا نتعجَّل الوقت، فإن فى التأنى السلامة، والقرار المُتسرِّع قد يحمل أخطاءً لا تُغتفر حاليًا، وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ووضع برنامجٍ زمنىٍّ واضح ومُحدَّد لإنجاز ما يُسفر عنه الحوار، وأن يتضامن المُتحاورون على إتمامه معًا عبر تشكيل لجنة وطنية عليا بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة، لئلا يتخاذل أحدٌ أو يتقاعس عن أداء واجبه، وختامًا ألا يرى بعضنا بعضًا إلا بعين المسئول، فالرئيس والحكومة والمسئول والمواطن هم الشعب، ولا يجب أن نتخاصم على مصلحة الوطن، طالما نعمل لأجله.. حفظ الله مصر وشعبها من كل مكروه وسوء.