ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن صناعة الإرهاب التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية, والتي تستثمر فيها منذ سنوات طويلة, فلم يعد هناك شك بأن أمريكا هى صانعة الإرهاب الأولى في العالم فهى التي ترعى الجماعات الإرهابية التي تحصد أرواح البشر الأبرياء دون ذنب فوق كوكب المعمورة, ورغم ذلك تحاول أن توهم العالم من خلال صناعتها الأخرى المسيطرة عليها وهى الإعلام بأنها بريئة من صناعتها للإرهاب, وأنه صناعة عربية – إسلامية, وكانت البداية أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق بدعوى أنها دولة كافرة وتحاول نشر الإلحاد في العالم وعلى المسلمين أن يقوموا بمحاربتها, وبالفعل تم تشجيع بعض الحكام العرب لإرسال مواطنيهم للذهاب إلى أفغانستان للجهاد ضد الكفر والإلحاد بدعم من الولايات المتحدة التي أمدت هؤلاء المجاهدين المضحوك عليهم بالمال والسلاح, وانتهت المعركة بتفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1990, وعاد المجاهدين من أفغانستان إلى بلادهم العربية والإسلامية ليمارسوا العنف والإرهاب داخل هذه المجتمعات.
ومع انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي أصبحت أفغانستان ساحة للاقتتال الأهلي, وفي عام 1994 تأسست حركة طالبان ( كحركة قومية – إسلامية مسلحة, تسعى لتطبيق الشريعة الإسلامية ) على يد الملا محمد عمر وبرزت كأحد أهم الفصائل في الحرب الأهلية الأفغانية, وكان معظم منتسبيها من الطلبة في مناطق البشتون شرق وجنوب أفغانستان الذين تلقوا تعليمهم في مدارس إسلامية تقليدية, وقاتلوا خلال فترة الحرب السوفيتية – الأفغانية, وتمكن الملا محمد عمر من نشر دعوة الحركة في معظم أفغانستان, حتى سيطر على العاصمة كابل في سبتمبر 1996 وأعلن عن قيام الإمارة الإسلامية في أفغانستان وتم نقل العاصمة إلى قندهار, وظلوا بالحكم حتى عام 2001 عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية غزو أفغانستان للقضاء على تنظيم القاعدة صنيعتها المتحالف مع حركة طالبان.
وهنا يطرح السؤال هل تركت الولايات المتحدة الساحة الأفغانية بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي ؟ والإجابة بالطبع لا فهى من صنعت حركة طالبان ومكنتها من الوصول للحكم لتكون خنجر في الخاصرة الرخوة لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي, وهى من صنعت تنظيم القاعدة الذي أثار الرعب في العالم على مدى عقدين من الزمان تحول على أثرها أسامة بن لادن الثري السعودي إلى اسطورة بواسطة الآلة الاعلامية الأمريكية الجبارة حيث نسب إليه وتنظيمه أكبر حادثة إرهابية في العالم وهى تفجير برجي التجارة العالمية بالولايات المتحدة ذاتها في 11 سبتمبر 2001 وباستخدام أحدث أساليب التكنولوجيا الحربية من صواريخ وطائرات, وهو ما أثار العديد من علامات الاستفهام حول قوة وقدرة التنظيم الذي استطاع أن يخترق أكبر منظومة أمنية في العالم, على الرغم من أن قادته وكما صور لنا الإعلام الأمريكي ذاته يعيشون في الجبال والكهوف في أفغانستان, وقامت أمريكا بإعلان الحرب على حركة طالبان وتنظيم القاعدة بدعوى أنهما المسئولان عن الإرهاب في العالم ورغم ذلك توارت حركة طالبان وظل تنظيم القاعدة موجود ومتصدر للمشهد الإرهابي حول العالم ويصدر يوميا بيانات يتم تداولها عبر الآلة الإعلامية الدولية أنه المسئول عن كل تفجير يحدث هنا أو هناك.
ومع تفعيل وتسريع خطوات مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية إلى تفتيت وتقسيم المنطقة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية وهو ما يستلزم استخدام ورقة الجماعات الإرهابية لتكون عملية التقسيم والتفتيت من الداخل دون مواجهة مباشرة منها كما حدث في افغانستان والعراق, حيث استغلت موجات الغضب الشعبي داخل بعض البلدان العربية وقامت بسكب مزيد من الزيت فوق النيران المشتعلة مع الدفع بعناصر مدربة تابعة لها لتقود الشارع لصالحها, ثم قامت بدعم الجماعات الإرهابية بالداخل لتمكينها من تنفيذ مشروعها وهنا اختفى تنظيم القاعدة من المشهد الإرهابي العالمي, وأختفى أيضا من فوق المنابر الإعلامية التي كانت تقوم بالترويج له, وهو ما يعنى أن الولايات المتحدة هى التي كانت ترعى هذا التنظيم وتروج له وعندما انتهت مهمته اختفى من الوجود.
وبدأت الولايات المتحدة كعادتها بالاعتماد على القوى الإرهابية القديمة المتمثلة في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وعندما فشل هذا التنظيم في تنفيذ مخطط الولايات المتحدة التقسيمى والتفتيتى للمنطقة, قامت الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة عدد من التنظيمات الإرهابية الجديدة وأطلقت يدها بالمنطقة ودعمتها بالمال والسلاح فسمعنا عن أنصار بيت المقدس بسيناء, وجبهة النصرة وجند الشام بسورية, لكن سرعان ما اختفت هذه التنظيمات سريعا وقامت بمبايعة التنظيم الإرهابى الجديد والأسطورة التي صنعتها الولايات المتحدة وروجت لها عبر آلتها الإعلامية الجبارة وهو تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام والذى عرف إعلاميا بتنظيم داعش والذى أصبح بعبع جديد تخيف به أمريكا العالم أجمع.
وبعد فشل مشروع الشرق الأوسط الجديد وتغيير الإدارة الأمريكية وصعود جو بايدن للحكم, قررت الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من أفغانستان, لكن هذا الانسحاب لا يمكن أن يكون دون تحقيق مكاسب في إطار الصراع الجديد مع روسيا والصين المنافسين الجديدين للولايات المتحدة على الساحة الدولية وإيران المتحدي لها والخارج عن طاعتها في منطقة الشرق الأوسط, لذلك جاء الانسحاب بعد اتفاق مع حركة طالبان تم في قطر ولاقى ترحيبا تركيا, لذلك لا عجب من عودة سيطرة طالبان مرة أخرى للسيطرة على الحكم في أفغانستان وبسهولة ويسر ودون إراقة دماء, تزامناً مع الانسحاب الأمريكي.
وبالطبع الولايات المتحدة ترغب في ذلك لتهديد أمن واستقرار أعدائها ( روسيا والصين وإيران ) الذين يشتركون في حدود مشتركة مع أفغانستان, وما يؤكد رعاية الولايات المتحدة للإرهاب هو عدم قضاءها على حركة طالبان لمدة عشرين عاماً احتلت خلالها افغانستان, حيث احتفظت بها كورقة يمكن استثمارها في أي وقت, لكن ردود فعل خصوم الأمريكان وترحيبهم بطالبان وعدم غلق سفاراتهم وسحب بعثاتهم الدبلوماسية قد يربك المشهد في ظل تعالي أصوات الجمهوريين خصوم جو بايدن بالداخل الأمريكي, لكن رغم عبثية المشهد إلا أننا لا يمكن تفسير ما يحدث بعيدا عن الرعاية الأمريكية للإرهاب ومحاولة أعطاء التنظيمات الإرهابية قبلة الحياة بعد الهزائم المتتالية في مصر وسورية والعراق وتونس, اللهم بلغت اللهم فاشهد.